الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد
فهذا شرحٌ كتاب الصيام من زاد المستقنع شرحه فضيلة الشيخ محمد المختار حفظه الله
وللعلم لم يكن لي عمل في هذا الشرح إلا تنسيقه على ملف وورد فقط
وإلا فهو مفرغ في موقع الشيخ حفظه الله
ولكني أحببت أن أضعه كملف قابل للطبع والمراجعة ليسهل الأمر على
إخواني من طلبة العلم سائلا المولى عز وجل أن يبارك في هذا الشرح
وأن ينفع به وأن يجزي المُفرغ له خير الجزاء
كما أوصي إخواني بالدعاء لي بظهر الغيب
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
أخوكم
أبو مصعب الجهني
P
قال المصنف-رحمه الله- : [ كتاب الصيام ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فيقول المصنف-رحمه الله- : [ كتاب الصيام ] : تقدم تعريف الكتاب ، وبيان اصطلاح العلماء-رحمة الله عليهم- فيه .
ومعنى قوله : [ كتاب الصيام ] : أنه سيذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعبادة الصيام فبعد أن فرغ من بيان أحكام الصلاة وأحكام الزكاة شرع في بيان أحكام الصيام ، وهذا الترتيب مستند إلى الشرع فإن النبي-- جعل الزكاة قرينة الصلاة ، ثم أتبع الصيام بها كما في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- في الصحيح .
والصيام في اللغة صله الإمساك ، تقول : صام عن الكلام إذا أمسك عنه . وصام عن السير إذا وقف وصام عن الأكل والشرب إذا أمسك عن الأكل والشرب ، فأصل الصيام في لغة العرب : الإمساك ، ومنه قوله-تعالى- : { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً } أي إمساكاً عن الكلام ويقولون : صامت الخيل إذا أمسكت عن الصهيل ، ومنه قول الشاعر :
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلكُ الُّلجُمَا
فقوله : ( خيل صيام ) أي ممسكة عن الصهيل ، فأصل الصيام هو الإمساك .
وأما في الشريعة فالمراد بالصيام : إمساك مخصوص ، من شخص مخصوص ، بنية مخصوصة .
فقولهم-رحمة الله عليهم- : ( الصيام إمساك مخصوص ) وذلك أن الإمساك يطلق ويقيد ، فتقول : أمْسَكَ - بالمعنى المطلق - فيشمل كل إمساك سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير ، فلما قلت : إمساك مخصوص فهمنا أنه يتقيد بشيء معين ، وهو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج ، فالصائم يمتنع من الأكل ومن الشرب وما في حكمهما ، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج .
والأصل في ذلك : قوله-تعالى- في الحديث القدسي : (( يدع طعامه ، وشرابه ، وشهوته من أجلي )) فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء ، ولذلك قالوا : إمساك مخصوص ، فلو قالوا : إمساك عن المفطرات يقولون : إنه قد يكون فيه إجمال ، ومن هنا قالوا : إمساك مخصوص حتى تكون دلالة الخصوصية يفهم منها ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين .
( من شخص مخصوص ) : وهو المكلف ، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس-- حينما كانوا يعللونهم باللعب إلى منتصف النهار يروضونهم على الصيام ، ولايجب الصوم على الصغير ؛ لأنه غير مكلف ؛ وإنما يجب على المكلف - وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك - .
قوله : ( بنية مخصوصة ) : النية تطلق بمعنيين :
المعنى الأول : نية التعبد والتقرب لله-- بإخلاص العمل ، وهذا هو الذي يسميه العلماء ( الإخلاص ) فإذا قال العلماء : الإخلاص أرادو بذلك خلوص النية بمعنى أن لايقصد غير الله-- والعلماء-رحمة الله عليهم- لما قالوا : بنية مخصوصة ليس مرادهم قضية الإخلاص ؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة فلما قلت تعريف الصيام في الشرع فهمنا أن المراد بذلك التعبد ، ولذلك لايقصدون هذا المعنى الخاص وإنما يقصدون بقولهم ( بنية مخصوصة ) أن تبين هل تنوي الفريضة أو تنوي النافلة ؟ وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة فما هي هذه الفريضة ؟ أهي صيام رمضان ؟ أو كفارة قتل ؟ أو كفارة ظهار ؟ أو كفارة جماع ؟ أو صيام نذر واجب ؟ ثم إذا كانت النية نافلة فما هي هذه النافلة ؟ أهي عاشوراء ؟ أو عرفة ؟ أو الاثنين والخميس ؟ ... وهكذا فُهِمَ مرادهم بقولهم : بنية مخصوصة أي تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع ؛ لأنك لما قلت : تعريف الصيام في الشرع ، أو الصيام شرعاً فالمراد بذلك في حدود الشريعة ، فالشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً ، والمطلق كالنافلة المطلقة ، فالتقرب إلى الله-- بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم ، والنافلة المقيدة كعاشوراء والاثنين والخميس والثلاث الأيام البيض من كل شهر .
والفريضة إما أن تكون فريضة محدوة كصيام رمضان وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر ، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها .
يقول العلماء : الصيام إمساك مخصوص لما قالوا إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة خرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة كأن يصوم الإنسان ويمتنع من الأكل والشرب لتقوية بدنه أو تخفيف وزنه أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية فهذا ليس بصيام شرعي ، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله-- ؛ لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده جعلها تبعاً لم يضر ؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لا تضر كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم يقصد منه طلب العلم ثم بعد طلبه للعلم تكون هناك حوافر مادية أو تكون هناك رواتب فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً ؛ لأن الله-- يقول : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم } فقال العلماء : إذا دخلت النية تبعاً لاتؤثر ، فالمقصود أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه .
قال-رحمه الله- : [ كتاب الصيام ] : فرض الله-- الصيام بكتابه وعلى لسان رسوله-- وأجمعت الأمة على أن الصيام فريضة من فرائض الله-- أعني صيام رمضان .
أما دليل وجوبه من كتاب الله : فقوله-- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } و { كُتِبَ } بمعنى فُرِضَ ، وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } أي أوجبناه وفرضناه .
وكذلك ثبتت السُّنة بفرضيته : كما في قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته )) ، وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر أن النبي-- قال : (( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان )) فنص-عليه الصلاة والسلام- على اعتبار صيام رمضان ركناً من أركان الإسلام ، وفي حديث أحمد في مسنده أن رجلاً ثائر الرأس دخل على المسجد يسمع لصوته دوي فسأل النبي-- عن الإسلام فقال : (( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان )) فدلت هذه النصوص على أن صام رمضان فريضة .
وأجمع العلماء-رحمهم الله- على أن صيام رمضان يعتبر ركناً من أركان الإسلام ، وأنه من الفرائض التي أوجب الله-- على عباده ، كان الأمر في أول الأمر فرض على الناس صيام يوم عاشوراء ، ثم نسخ صيام عاشوراء بصيام رمضان ، وقال بعض العلماء : لا بل فرض عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وهي الأيام البيض ، ثم نسخ ذلك بصيام رمضان ، والصحيح هو القول الأول أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة كما في حديث معاوية في الصحيح : " أن النبي-- رقى المنبر وقال : (( إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه )) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء ، ثم نسخ بصيام شهر رمضان ، وهذا النوع من النسخ يمثل له العلماء يعتبر أحد أنواع النسخ وهو ( نسخ الأخف بالأثقل ) ؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : نسخ إلى بدل .
والقسم الثاني : ونسخ إلى غير بدل .
فالنسخ إلى بدل إما أن يكون إلى بدل مساوٍ أو بدل أثقل أو بدل أخف ، فمثال البدل المساوي كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة فإن التوجه مساوٍ وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم من فضيلة بيت المقدس فهذا يسمونه من النسخ إلى مثل ، ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصولين وقالوا : إن الشريعة شريعة رحمة ولاينسخ الأخف بالأثقل ، والصحيح أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل فهذا يعبتره العلماء دليلاً على جواز نسخ الأخف بالأثقل ، وقد ينسخ الأثقل بالأخف - وهذا كثير - كما في مصابرة الواحد للعشرة نسخت بمصابرته للاثنين فهذا النسخ يعتبره العلماء من نسخ الأخف بالأثقل .
والذي فرض الله-- صيامه ثلاثون يوماً ، وقد تكون تسعةً وعشرين إذا كان الشهر ناقصاً وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد هذه الفرضية لشهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة في اليوم الثاني قيل لليلتين خلتا من شهر شعبان مـن السنة الثانية فرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان وأوجب عليهم ذلك ، وصام النبي-- تسع رمضانات كاملة ، وفي هذه السنة وهي السنة الثانية هي التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى وفيها كانت فرضية الصيام ، قال العلماء : إن الله-- فرض صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة أعظمها وأجلها على الإطلاق ما جعل الله في الصيام من معنى الإخلاص لوجهه الكريم ، فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على الكريم ، فإن الإنسان إذا تعود على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً فإذا عُوِّد على الخير كان على خير ، وإن عُوِّد على شر-والعياذ بالله- كان على شر فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله-- ؛ والسبب في ذلك أنه أخفى العبادات ، ويستطيع الإنسان أن يتظاهر بالصيام أمام الناس وأن يفطر في بيته وأن يأكل في غيبة عن نظر الناس ومع ذلك يصوم ، فكأنه يُعَوَّد بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم ، ولذلك قال-- في الحديث القدسي عن الله -تعالى- أنه قال : (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به )) قال العلماء قوله : (( فإنه لي )) أي أنه يقع خالصاً لوجه الله-- ، وسر الإنسان في قوته إذا تغلب على نفسه فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله-- فانظر إلى من قهر هواه ، وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه ، وقد أشار الله-تعالى- إلى ذلك بقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله ؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهى لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس فكأن الصيام حينما يصوم الإنسان تصبح نفسه تحته ؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل وشهوة الشرب وشهوة الفرج ومع ذلك يكبحها ويمنعها فيقوى سلطان الإنسان على نفسه وهذا يقع في كثير من العبادات فالإنسان يشتهي - مثلاً - النوم فتجده في غاية من نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر فيقوم ويقهر نفسه فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه ، ثم بعد ذلك لذة الأكل والشرب تأتيه فريضة الله-- بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم ، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيه أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيه أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه استطاع أن يأمرها فتأتمر وينهاها فتنـزجر ، ولذلك الناس على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : منهم مـن أصبح هواه تحت أمره كما أشار الله إلى هذا الصنف - وهم السعداء - في قوله-تعالى- : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } .
والقسم الثاني : قسم هواه غالب عليه ، وقد أشار الله-- إلى هذا القسم بقوله : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فهذا-نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك ، ولذلك تجد بعض أهل الشهوات تقول له : - يا أخي - هذا حرام وهذا لايجوز فيقول : أنا اعلم أنه حرام وأنه لايجوز ؛ ولكن لا أستطيع أن أتركه ، ومعنى أنه لايستطيع أن يتركه معناه أنه قد بلغ مرتبة من المراتب التي لايستطيع فيها أن يأمر نفسه فتستجيب له فأصبح هواه هو الذي يأمره وشهوته هي التي تحكمه -نسأل الله السلامة والعافية- .
وأما القسم الثالث : فهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهؤلاء إلى أمر الله-- إن شاء عذبهم فبعدله ، وإن شاء عفا عنهم فبمحض فضله فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى ، وتارة يغلبهم الهوى ،وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح ، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح ، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته على هواه ، أو تأتيه منيته على طاعة ربه ، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله-- برحمته ، فالمقصود أن الصيام يربي في النفس القدرة على الهوى وقهر الهوى حتى تكون النفس مستجيبة ، قال العلماء : من امتنع عن الطعام والشراب والجماع مع أن الله أحل له من مال حلال أن يطعم وأن يشرب وأن يجامع أهله وزوجته فإنه إذا منع نفسه عن هذا الحلال أقدر من أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام فإذا كان يمكث هذه المدة ثلاثين يوماً أو تسعاً وعشرين يوماً وهو لايقترب من طعامه ولا شرابه ولاشهوة فرجه فإنه قادر بإذن الله-- إذا دعته نفسه إلى الحرام أن يمتنع عن المأكل الحرام والمشرب الحرام ، وكذلك فعل الحرام من الشهوات التي لم يأذن الله-- بها .
وفي الصيام خير كثير ، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء ويذكرهم بالمحتاجين فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب فإنه سيتذكر الفقير الذي لايجد طعاماً ولا شراباً ، ولذلك قالوا : إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء خاصةً إذا كان من الأغنياء والأثرياء فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى كما قال-تعالى- : { كَلاَّ إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وظمئ كما يظمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم ، ثم إن الصيام يُذَكِّر بالله-- ويُذَكِّر بالآخرة ، ولذلك كان بعض العلماء-رحمة الله عليهم- يبكي إذا انتصف النهار ؛ لأنه يتذكر إذا وقف بين يدي الله-- واشتد الحر وعظم ظمأ الناس في عرصات يوم القيامة ، فهو يذكر بالله-- ، فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام ، وأخبر-- أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه فقال-تعالى- : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي جعلناه سبباً للتقوى ، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله-- من تقواه كما قال-سبحانه- : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه أنه يزيد من أمرين وهما تحصيل فرائض الله والانكفاف والامتناع عن محارم الله-- .
كانت فرضية الصيام في أول الأمر إذا صام الإنسان يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فإذا غابت الشمس وأفطر إذا نام ولو بعد مغيب الشمس وبلحظة واحدة حرم عليه الأكل والشرب إلى اليوم الثاني فكانت هـذه هي فرضية الصيام في أول الأمر ، ثم إن الله خفف ذلك فقال : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قـوله-سبحانه- : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر } فخفف هذا الصيام ؛ والسبب في ذلك قصة الصحابي الذي أغمي عليه حينما جاء من عمله وكان في فلاحته وزراعته فلما جاء آخر النهار سأل امرأته الطعام ، فذهبت لتحضر الطعام له ، فأصابه الغشي من التعب والعناء ، فنام فجاءت فقالت له : ويلك ! أنمت ؟! فلما أصبح في اليوم الثاني أصبح مجهداً منهكاً ، فغشي عليه في منتصف النهار ، فخفف الله-- عن عباده ، وهذا من نسخ الأثقل بالأخف ، فخفف الله-- الفرضية وجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس ، وهذا هو الذي استقر عليه حكم الله-- لهذه الأمة إلى قيام الساعة .
والصيام في الأمم الماضية يكون بالإمساك عن الكلام كما في قوله-تعالى- : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً } ، واختلف العلماء-رحمهم الله تعالى- في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } قال بعض العلماء : الشبه في قـوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } من حيث الفرضية أي ألزمناكم بالصيام كما ألزمنا من قبلكم - وإن كان هناك فرق بينكم وبينهم في الصفة - ، وقال بعض العلماء : بل إن الفرضية في أولها كانت كفرضية أهل الكتاب ، ثم نسخت بعد ذلك .
[ يجب صوم رمضان برؤية هلاله ] : الواجب تقدم تعريفه ، وهذا الوجوب الذي نبه عليه المصنف على سبيل الفرضية أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، وإذا ترك صيام رمضان عامداً متعمداً فأفطر ولو يوماً واحداً لم يقضه صيام الدهر ولو صامه بمعنى أن الله لايعطيه ثواب ذلك اليوم ولو صام الدهر كاملاً ؛ لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم ؛ لأن الله-- فرض علينا صيام الشهر كاملاً ، ولا يسقط هذا الشهر إلا بدليل .
وأما حديث : (( من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر )) فقد خرج مخرج الوعيد وهو المخرج الذي يسمى بـ ( المبالغة ) وله نظائر كقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( الحج عرفة )) فإنه لما قال : (( الحج عرفة )) ليس معناه أن الحج فقط في عرفة وحدها ؛ إنما هو على سبيل المبالغة وليس المراد به التحديد والقصر ، وقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( لم يقضه صيام الدهر )) يعني أنه لو صام مهما صام ، ما دام أنه أفطر عامداً متعمداً فإنه لاينال الفضل في قضاء ذلك اليوم بخلاف ما إذا أفطر بعذر ، فإنه إذا صام يوماً بدلاً عن هذا اليوم فإنه يصبح كأنه صام رمضان نفسه وهذا لوجود العذر فإذا كان بدون عذر فإن الله لا يُبَلِّغه مرتبة من كان معذوراً ، أما إسقاط الفرض عنه فإنه قول ضعيف ومخالف للأصل ، فإن النبي-- بين لنا أن الحقوق واجبه وأن حقوق الله دين على المكلف كما في الحديث الصحيح أنه قال : (( فدين الله أحق أن يقضى )) فهذا نص صحيح صريح على أن العبد إذا أخل بواجب أن عليه ديناً ، وأن عليه أن يقضي هذا الدين ، وأن يقوم به على وجهه ولما كان الحديث محتملاً بقينا على الأصل من وجوب مطالبته بصيام رمضان .
[ رمضان ] : اختلف العلماء فيه :
قال بعض العلماء : هو مأخوذ من الرمضاء والمراد بذلك شدة الحر ؛ والسبب في هذا أن العرب كانت تسمى هذا الشهر في الجاهلية شهر ( نائق ) وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية ، ثم لما فرض الله صيام رمضان وافقت السنة الثانية سنة حرٍ وشدة من الحر ، فسموه رمضاناً من هذا .
الوجه الثاني : قيل سمي رمضان ؛ لأنه يرمض الذنوب ، وفيه حديث أنس بن مالك-- أن النبي-- قال : (( إنما سمي رمضاناً ؛ لأنه يرمض الذنوب )) بمعنى يحرقها ويذهبها ؛ ولكنه حديث ضعيف ، بل فيه راوٍ كذاب ، ولذلك لايعول عليه ، ولا يعمل به .
القول الثالث : أنه سمي رمضان قيل : إن اسم رمضان اسم من أسماء الله-- وفيه - أيضاً - حديث ضعيف ، وأصح هذه الأقوال القول الأول ، أنه سمي رمضان من الرمضاء وهي شدة الحر ؛ لأنه وافق هذا الشهر التاسع زماناً شديد الحر حينما فرض الله على عباده .
ولما قال-رحمه الله- : [ يجب صوم رمضان ] : للعلماء قولان :
قال بعض العلماء : لايجوز أن تقول : دخل رمضان ، وخرج رمضان ، وانتصف رمضان .
واستدلوا بالحديث الذي تقدمت الإشارة إليه : (( لاتقولوا : جاء رمضان ؛ فإنه اسم من أسماء الله )) وهذا حديث ضعيف .
والصحيح أنه يجوز أن يقول : جاء رمضان ، ومضى رمضان ، وانتصف رمضان ؛ لأن السُّنة دلت على جواز ذلك وترجم له الإمام البخاري-رحمه الله- في صحيحه .
والدليل على جواز ذلك : قوله-عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي هريرة في الصحيح : (( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة )) وفي الحديث الصحيح عنه-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )) وفي الصحيح قوله - أيضاً - (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم مـن ذنبه )) فلأجل هذا دلت النصوص على جواز قولك : جاء رمضان ، وخرج رمضان ، وانتصف رمضان ، ولاحرج عليك في ذلك ؛ لكن بعض العلماء يقولون : الأفضل أن يقول : شهر رمضان ، فيضيف لفظ الشهر ؛ لأن الله-- نص على ذلك فقال : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )) فقالوا : المستحب أن يضيف كلمة الشهر ، وهذا على سبيل الكمال والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب .
قال-رحمه الله- : [ يجب صوم رمضان برؤية هلاله ] : الباء سببية أي بسبب رؤية هلاله .
الشهور تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شهور شمسية .
القسم الثاني : شهور قمرية .
والشهور القمرية هي اثنا عشر شهراً ، وهي السنة القمرية هذه الشهور القمرية هي التي رتب الشرع عليها الأحكام ، ولم يرتبها على الشهور الشمسية فالشريعة ترتب أحكامها على الشهور القمرية ، فمثلاً في عدة المرأة الآيسة من الحيض إذا كانت ثلاثة أشهر فإنها تعتد بالأشهر القمرية ولا تعتد بالإجماع بالأشهر الشمسية ، وهكذا بالنسبة للمرأة المحتدة في الوفاة أربعة أشهر وعشر فإنها تحتد بالأشهر القمرية ، ولاتحتد بالأشهر الشمسية ، وهكذا صـيام شهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان فإنها تكون بالأشهر القمرية ، ولا تكون بالأشهر الشمسية ، والأشهر القمرية تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أشهر كاملة وهي التي استتمت العدد ثلاثين يوماً .
والقسم الثاني : أشهر ناقصة ، وهي التي رؤي الهلال دالاً على نقصانها ، تستتم تسعةً وعشرين يوماً ، فالفرق بينها يوم واحد ، وهو الذي يسمى بيوم الشك ؛ والسبب في ذلك أن القمر له منازل ودرجات ، فإذا غابت الشمس وسقطت قبل القمر فمعنى ذلك أنه قد دخل الشهر التالي ، وبناءً على ذلك تكون منـزلته منـزلة الشهر التالي ، أما لو سقط قبل الشمس فمعنى ذلك أنه قد بقيت له درجة ، وحينئذٍ يكون الشهر كاملاً ، وبناءً على ذلك لايمكن أن يحكم بدخول الشهر إلا بأحد أمرين في الأشهر القمرية :
الأول : إما كمال العدد للشهر السابق ، تُتِمُّ له ثلاثون يوماً .
الثاني : أن يُرى الهلال ليلة الثلاثين ، فتكون رؤيته دليلاً على أن الشهر الماضي ناقص وحينئذٍ تعده تسعةً وعشرين يوماً ، وقد أشار الله-تعالى- إلى ذلك بقوله : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } فهو على منازل ودرجات ، فإذا سقطت الشمس قبله وبقي فمعنى ذلك أن الشهر كامل وأن هذه الليلة للشهر التالي ؛ لأن درجته التي كانت بعد مغيبه بارتفاعه ورؤي في تلك الليلة فمعناه أنه للشهر التالي ؛ لكن لو سقط مع الشمس أو قبل الشمس فمعنى ذلك أنه قـد بقيت له درجة ، فحينئذٍ لابد من الليلة الثلاثين التي تكون فيها درجة القمر كاملاً ، وإذا وجدت هاتان العلاماتان حكم بما يترتب عليهما ، ونقول بكمال الشهر ، وحينئذٍ يحكم بوجوب صيام شهر رمضان .
فقال المصنف-رحمه الله- : [ يجب صوم رمضان برؤية هلاله ] : يعني إذا رؤي الهلال ليلة الثلاثين فحينئذٍ يثبت عندنا أن شهر رمضان قد دخل .
الدليل على ذلك : قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) فقوله : (( صوموا لرؤيته )) اللام تعليلية أي بسبب رؤيته فجعل الرؤية سبباً في وجوب الصوم فمن رأى الهلال ليلة الثلاثين فإنه حينئذٍ يثبت دخول رمضان برؤيته على تفصيل عند العلماء هل يشترط العدد أو لا يشترط ؟
قال المصنف-رحمه الله- : [ يجب صوم رمضان برؤية هلاله ] : إذا لم يُرِ الهلال فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون السماء صحواً ليلة الثلاثين ؛ لأن الإشكال كله في ليلة الثلاثين فليلة الثلاثين من شعبان التي هي آخر شهر شعبان يترآى الناس الهلال فإن رؤي الهلال فلا إشكال ، وإذا لم ير الهلال فلا تخلو السماء من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون السماء صحواً ، والسماء الصحو : هي الواضحة التي لاغيم فيها ولا قتر ، والقتر : هو الغبار ونحو ذلك كالدخان الذي يحجب الرؤية ، فالسماء إذا كانت صحواً والرؤية ممكنة وتراءينا الهلال ولم نره فحينئذٍ بالإجماع على أن الليلة تعتبر من شعبان ، وأنها لا تعتبر من شهر رمضان ، ولايحكم بدخول شهر رمضان بالإجماع .
لكن الحالة الثانية : وهي أن تكون السماء فيها غيم أو يكون فيها قتر من غبار كما يقع في بعض الأحيان يأتي العجاج والريح بالغبار والأتربة فلا يتمكن الناس من رؤية السماء ، أو يكون هناك حريق أو دخان فلا يتمكن الناس من رؤية السماء ، فإذا حصل الحائل الذي يسمى الحائل سواءً من غيم أو قتر أو دخان فما الحكم ؟
للعلماء قولان :
القول الأول : قال بعض العلماء : إذا كانت السماء مغيمة أو كان بها قتر فإنه يحكم بتمام شهر شعبان وهذا هو مذهب جمهور العلماء ومنهم الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والظاهرية ، وطائفة من أهل الحديث أنه إذا كانت ليلة الثلاثين ولم نر الهلال سواءً كانت السماء صحواً أو كانت مغيمة فيها قتر ، أو ليس فيها شيء فالحكم عندهم سواء أنهم يتمون عدد شعبان ثلاثين يوماً .
واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عنه-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة )) وفي رواية : (( فأكملوا عدة شبعان ثلاثين يوماً )) وجه الدلالة : أن النبي-- قال : (( فإن غم عليكم )) فنص على أنه إذا لم ير الهلال ولو كان هناك غيم أننا نتم العدة ثلاثين يوماً هذا الدليل الأول .
أما الدليل الثاني : قالوا الأصل في الشهر ثلاثون يوماً الأصل أن الشهر كامل حتى يدل الدليل على أنه ناقص ، فالنقص خلاف الأصل ؛ والقاعدة في الشرع : " أن الأصل بقاء ما كان على ما كان " ، فنحن الأصل أننا في شعبان ونشك هل دخل رمضان أو لا ؟ فلما كانت العدة ناقصة يقول يجب علينا إكمال العدة ؛ لأنه الأصل ، وعلى هذا فيجب إتمام شعبان ثلاثين يوماً .
القول الثاني : قالوا : إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه يصام ذلك اليوم ويحسب من رمضان ، وهذا هو قول الإمام أحمد-رحمة الله عليه- ، واختاره طائفة من أصحابه على أنه إذا كانت السماء مغيمة أو بها قتر أنه يجب صوم ذلك اليوم لاحتمال كونه من رمضان .
واستدلوا : برواية : (( فإن غم عليكم فاقدروا له )) قالوا قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( فاقدروا له )) القدر هو التضييق ، تقول العرب : قدر الشيء إذا ضيقه ، ومنه قوله-تعالى- : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } حينما عَلَّم داود صنعة اللبوس التي تكون لمنع ضربات السيوف ونحوها قال : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } يعني ضيق حلق السرد حتى لايصاب الإنسان إذا طعن أو جرح ، فالتقدير هو التضييق ، ومنه قوله-تعالى- : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّه } أي ضيق عليه ، ولذلك قال-تعالى- : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } { يَبْسُطُ } بمعنى أنه يغني { وَيَقْدِرُ } بمعنى يضييق ، فالقدر التضييق ، فلما قال : (( إن غم عليكم فاقدروا له )) قالوا معنى ذلك : أننا نضييق شهر شعبان ولا نعده كاملاً ونجعله تسعاً وعشرين ثم ندخل في شهر رمضان .
واستدلوا - أيضاً - بأن النبي-- قال كما في الصحيحين : (( إنا أمة أمية )) وهذا الحديث يحتاج إلى تأمل ، وهو أن وصف الأمية لأمة النبي-- وصف شرف وليس بوصف نقص على خلاف ما يظنه بعض الناس اليوم أن الأمية وصف نقص والواقع هناك فرق بين الجهل والأمية ، فالشخص قد يكون أمياً وهو عالم ، فإن النبي-- كان أمياً وهو أعلم من على وجه الأرض ، قال-تعالى- : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً } وهذا وصف شرف لايظن أنه نقص . قوله : (( إنا أمة أمية )) يثبت هذا ، ولذلك الأنسب أن يقال محو الجهل ؛ لأنه أنسب حتى لايظن الناس أنها صفة نقص قال : (( إنا أمة أمية : لانكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا )) قال الراوي : أشار بيديه ثلاثاً هكذا يعني ثلاثين يوماً ، وهكذا أي أشار ثلاث مرات ، قال : ثم قبض إبهامه في الثالثة أي أن الشهر ثلاثين ويكون أيضاً تسعاً وعشرين ، ففي المرة الأولى التي أشار ثلاث مرات-عليه الصلاة والسلام- أي أن الشهر يكون كاملاً ويكون ناقصاً قال أصحاب القول الثاني إنه لما قال : (( الشهر هكذا وهكذا )) فمعناه أن اليقين أن الشهر تسع وعشرون ، والشك في الثلاثين فالأصل في الشهر تسع وعشرون عندهم وحينئذٍ يكون كمال الشهر بتسع وعشرين ؛ لكن اليوم الثلاثين مشكوك فيه قالوا : فحينئذٍ نوجب على الناس صيام هذا اليوم لاحتمال كونه من رمضان .
والذي يترجح - والعلم عند الله - هو قول الجمهور أنه إذا حال بين الناس وبين رؤية الهلال غيم أو قتر أنه لايجب عليهم صيام يوم الثلاثين .
والدليل على ذلك : نهي النبي-- في حديث عبدالله ابن عمر في الصحيحين : (( لاتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين )) فهذا يدل على أننا لانصوم يوم الشك ، وهذا نهي تحريم كما سيأتي .
وإذا ثبت أن الأصل كون الشهر ثلاثين كما في الحديث الصحيح في قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )) هذا نص صريح فالقول الذي يقول إن العدة تكمل ثلاثين يوماً أقوى ؛ لأنه اعتمد الأصل .
وأما رواية : (( فاقدروا له )) فإن القدر يطلق بمعنيين :
الأول : إما أن يراد به التضييق .
الثاني : وإما أن يراد به الحساب تقول قدر يعني احسب لي هذا الشيء وبين لي حقيقته وأعطني قدره وحقه من العدد والحساب ، فلما كان قـوله-عليه الصلاة والسلام- : (( اقدروا له )) وكانت المسألة مسألة حسابية حمل قوله : (( اقدروا له )) على الحساب ؛ لأن القاعدة : " أن مبنى الحديث قرينة على معناه " فلما كان الحديث منبنياً على الحساب وعندنا معنى للقدر بمعنى التضييق والقدر يعني التقدير وهو الحساب حملناه على معنى الحساب ؛ ولأن القاعدة في الأصول : " أنه إذا تردد الحديث بين معنيين معنى يخالف به نصوصاً أخرى ومعنىً يوافق وجب صرفه على المعنى الموافق " فلما جاءنا حديث : (( أكملوا العدة ثلاثين )) فسر المراد بقوله : (( اقدروا له )) أي اجعلوا لشعبان قدره فيكون قوله : (( اقدروا له )) أي أعطوا شعبان قدره بمعنى أكملوا عدة شعبان فاتفقت رواية التقدير مع رواية الإكمال ، وبناءً على ذلك فإنه إذا حال بيننا وبين رؤية الهلال في ليلة الثلاثين غيم أو قتر فإننا نكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً .
قال-رحمه الله- : [ ويجب صوم رمضان برؤيه هلاله ] : رؤية الهلال أمر من الأمور المهمة التي ينبغي أن يحافظ الناس عليها ؛ وذلك لأن الأحكام الشرعية تتوقف على هذه الرؤية ، ومن هنا قال العلماء : إن رؤية هلال الشهور كرمضان وذي الحجة ونحوها تعتبر من فروض الكفاية بحيث لو أن أهل بلد قصروا فيها فإنهم يأثمون جيمعاً ، فتساهُل الناس في ترائي الهلال يعتبر من المنكرات ، ومن الخطأ الشائع الذائع بل ينبغي على طلاب العلم أن يحيوا هذه السُّنة ، وكان الناس إلى عهد قريب إذا كان اليوم التاسع والعشرين أو ليلة الثلاثين يخرجون إلى الصحراء لإحياء هذه السُّنة ، يخرج طلاب العلم والثقات ينظرون ، وحبذا لو يسألون أهل الخبرة ويعرفون منازل القمر قبل مغيبه في الأيام التي تسبق أيام الرؤية حتى يكون عندهم إلمام ومعرفة ، ثم بعد ذلك يخرجون لرؤية الهلال ويعرفون درجاته ومنازله حتى يمكنهم أن يثبتوا هذا الأمر لأنهم إذا لم يقوموا بذلك فإنه قد يوجد الهلال ولايتراءاه الناس فيضيع حق الله-- وصيام هذه الأيام مركب على وجود هذه الرؤية ، وبناءً على ذلك قال العلماء : لاينبغي التساهل في ترائي الهلال ، بل إذا تساهل الناس أو انشغلوا ينبغي توصية أناس ولو بالأجرة ؛ لأن فروض الكفايات إذا لم يوجد من يقوم بها شرع إعطاء الأجرة لمن يقوم بهذه الرؤية لكي يثبت به حق الله-- من صيام الأيام المفروضة .
[ فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين ] : وهذا بالإجماع أنهم يصبحون مفطرين ، وهذا اليوم هو يوم الشك وهو يوم الثلاثين ويحرم صومه ، سمي يوم الشك ؛ لأن ليلته تحتمل أن تكون من رمضان ، وتحتمل أن تكون من شعبان واليوم نفسه متحمل أن يكون من رمضان فيصام ، ويحتمل أن يكون من شعبان فيفطر ، وقد نهى رسول الله-- عن صومه ؛ لأن هذا اليوم كما في الصحيحين من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- : (( لاتَقَدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه )) وقال عمار بن ياسر- وعن أبيه- : " مـن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم-- " ، وهذا يدل على أنه يحرم صيام يوم الشك ، والعلماء مجمعون من حيث الأصل على كراهة الصوم .
واختلفوا في التحريم ، فكانت أسماء وعاشة-رضي الله عنهما- يريان الجواز ، وأنه لاحرج على الإنسان أن يصوم يوم الشك ، ويعتذر لهما بعدم علمها بالحديث الذي نهى النبي-- فيه عن صوم يوم الشك .
وقال بعض العلماء : يجوز صومه مع الكراهة ؛ ولكن ظاهر الحديث أنه حرام ، وأنه لايجوز له أن يصومه .
بل قال بعض العلماء : أنه يأثم بدل أن يؤجر وهذا هو الصحيح ؛ لأن النبي-- قال : (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين )) وهذا نهى ، والأصل في النهي أنه يدل على التحريم .
قال العلماء : حرم النبي-- صيام يوم الشك ؛ لأنه ذريعة للتنطع والغلو ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب ؛ لأن أهل الكتاب فرض عليهم الصيام عدد أيام فزادوا فيها فلما زادوا فيها ابتدعوا في دين الله ما ليس منه وهذا على سبيل الشك والوسوسة .
وقال بعض العلماء : إنما حَرُم صيام يوم الشك لما فيه من إدخال الوسوسة على الناس ، وبناء الشريعة على الوسوسة ؛ لأنه ليس من رمضان فيصومه وهو يعتقد أنه من رمضان ، ويدل على ذلك قوله : (( إلا رجل كان يصم صوماً فليصمه )) فدل على أنه غير قاصد لرمضان ، فكأنه يستثنيه إذا لم يقصد أنه من رمضان ، وهذا هو الأولى ، والصحيح أنه لايجوز صيام يوم الشك وأن صومه حرام على ظاهر النهي إلا إذا وافق صوم إنسان ، كأن تكون مـن عادتك أن تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فوافق يوم الشك يوم الاثنين أو يوم الخميس فتصوم ولاحرج ، أو يكون من عادتك أن تصوم يوماً وتفطر يوماً فأفطرت يوم التاسع والعشرين ووافق أن الثلاثين شك وثبت أنه ليس من رمضان فأحببت أن تصومه فحينئذٍ لاحرج ، وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان من عادته أن يصوم أو نذر نذراً فإنه يصوم ولا حرج عليه ، وأما ما عدا ذلك فإنه باق على الأصل الموجب للحرمة والمنع .
[ وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه ] : [ وإن حال ] : الحائل هو الذي يمنع من رؤية الشيء ، فإن حال بينه وبين رؤيته غيم أو قتر أو دخان كحريق ونحو ذلك فتمتلئ سحب الدخان في السماء فتحجب رؤية الهلال خاصةً إذا كان في جهة المغرب أو كان هناك عجاج من غبار أو نحوه فهذا كله على ظاهر مذهب الإمام أحمد-رحمة الله عليه- أنه يصام .
والصحيح أنه لايصام كمذهب الجمهور لما ذكرناه من السُّنة الصحيحة عن رسول الله-- .
[ وإن رؤي نهاراً فهو لليلة المقبلة ] : وإن رؤي الهلال نهاراً فهو لليلة المقبلة ومسألة رؤية الهلال نهاراً إما أن يكون قبل الزوال أو بعد الزوال .
اختلف السلف-رحمة الله عليهم- في رؤية الهلال نهاراً :
فمنهم من قال : إذا رؤي الهلال نهاراً قبل الزوال وجب قضاء هذا اليوم وإذا رؤي بعد الزوال فإنه يكون لليلة التالية .
ومنهم من قال : إذا رؤي قبل الزوال أو بعد الزوال فهو لليلة التالية ، وهذا هو الصحيح كمذهب الحنابلة ، والشافعية ، وطائفة من أصحاب الإمام مالك-رحمة الله على الجميع- أنه إذا رؤي في النهار سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال أنه لليلة القادمة ، وأنه لا يعد دليلاً على أن يوم الشك من رمضان .
والأصل في ذلك : أن النبي-- قال : (( صوموا لرؤيته )) فجعل الصيام على الكمال معنى ذلك أن الرؤية قد وقعت بالليل ؛ لأنه لو رؤي في النهار لايمكن الصيام ، وعلى هذا فيكون قوله : (( صوما لرؤيته )) يدل على أن الرؤية ؛ إنما تكون بالليل ؛ لأنه إذا رؤي نهاراً فهو إلى أقرب الليلتين ، ولا شك أنه أقرب إلى الليلة التي تلي من الليلة التي مضت باحتساب البداية لاباحتساب النهاية .
[ وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم ] : [ وإذا رآه أهل بلد ] : أي رأى الهلال أهل بلد لزم الناس في ذلك البلد أن يصوموا مثل رؤي في مكة فيلزم جميع أهل مكة أو رؤي في المدينة فيلزم جميع أهل المدينة وهكذا بالنسبة لبقية البلدان فإذا رؤي في موضع لزم أهله .
لكن السؤال : إذا تعددت الأمصار كأن يكون رؤيته في المشرق هل يصوم أهل المغرب لرؤية أهل المشرق أو لايصوموا ؟
للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : منهم من كل أهل بلد يرجعون إلى رؤيتهم فمثلاً أهل الجزيرة يرجعون إلى رؤيتهم إن رأوه لزمتهم الرؤية في خاصتهم ولا تلزم أهل الشام أو أهل المغرب ولا أهل المشرق والعبرة في كل مصر وقطر بحسبه ، وهذا دليله حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- أنه قدم عليه كريب من الشام فسأل كريباً متى رأيتم الهلال فأخبره أنهم رأوه ليلة الجمعة فقال ابن عباس-رضي الله عنهما- ؛ لكنا رأيناه ليلة السبت فقال : ألا تعتد بـرؤيتنا ؟ فقال : لا ... هكذا أمرنا رسول الله-- ففصل رؤية بلده عن رؤية غيرهم قالوا : فهذا يدل على أن كل قطر ومنطقة بحسبها وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الصحيحة في قول ابن عباس-رضي الله عنهما- ويدل عليه الأصل ؛ لأن المطالع مختلفة والمنازل متباعدة بل قد يكون هناك فرق بين البلدين بقدر يومين وحينئذٍ يصعب أن تلزم أهل المشرق بأهل المغرب ، فلما وجد التفاوت دل على أنه لايمكن جعلهم بمثابة المكان الواحد إذْ لو قلت إن قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( صوموا لرؤيته )) على العموم فمعنى ذلك أن يصوم أهل الأرض كلهم برؤية بلد واحد بل برؤية قرية واحدة وهذا لاشك أنه غير مراد ؛ لأنه قد يكون في بلد اليوم ثمانية وعشرين ويكون في بلد في المغرب اليوم ثلاثين ، فيكون الفارق يومين ولايمكن بحال أن نقول لأهل يوم ثمانية وعشرين أن يصوموا برؤية الذين هم من بعدهم ، وعلى هذا قالوا : إن كل بلد يعتد برؤيته .
القول الثاني : أن رؤية البلد الواحد رؤية للجميع .
واحتجوا بقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) وقالوا : هذا يدل على أن الجميع تكون رؤيتهم واحدة .
والقول الثالث : التفصيل قالوا : إذا تقاربت الأماكن وكانت المنـزلة واحدة فإنه يصام برؤية البلد الواحد ، والعكس بالعكس ، وقالوا : لأنهم إذا كانوا في منـزلة واحدة أمكننا أن نلزمهم بقوله : (( صوموا لرؤيته )) أي نلزمهم بالعموم .
والذي يترجح والعلم عند الله أن لكل أهل بلد رؤيتهم ؛ وذلك لأن النبي-- قصد من قوله : (( صوموا لرؤيته )) أن رؤية الرجل الواحد في البلد الواحد رؤية لجميعه ، وليس المراد أنها رؤية لجميع من في الأرض إِذْ لا يختلف إثنان أن الليل يكون هنا النهار ويكون عند غيرنا ، وتتفاوت الأماكن يوماً ويومين ، ولذلك لايمكننا أن نقول : إن حديث : (( صوموا لرؤيته )) على العموم ، يقول العلماء : إن العموم قد يخص بدلالة الحس وقد يدل الحس على تخصيصه ويمثل لها أهل الأصول بقوله-تعالى- : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } قالوا : هذا العموم مخصص بالحس ؛ لأنها مادمرت كل شيء ؛ وإنما دمرت كل شيء عذاباً ونكالاً وإلا كان ما دمرت الأرض لأنه قال : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } فهذا عام يشمل كل شيء في الأرض ومع ذلك قالوا : هذا العام مخصص بدلالة الحس بدليل الوجود .
كذلك - أيضاً - دليل الحس عندنا هنا لايمكننا أن نقول : إن رؤية بلد رؤية للجميع وهذه المسألة يقع فيها خطأ كثير وخلط كبير ، ولذلك تجد المسلمين في مشرق الأرض ينقسمون قرابة ثلاثة فرق :
فرقة تقول نصوم مع بلد كذا .
فرقة تقول : نصوم مع بلد كذا .
وفرقة تقول : لانصوم لا ببلد كذا ولا بغيره بل نصوم برؤيتنا .
والصحيح الذي يظهر - والله أعلم - من خلال النصوص وسنة النبي-- وهديه التي تقطع النـزاع أن كل بلد ملزمون بالرؤية ، فإذا رأوا الهلال فالحمد لله وحينئذٍ يلزمهم ما يلزم الرائي من صيام ذلك الشهر .
وأما إذا لم يروا الهلال فإنهم باقون على الأصل ؛ لأن النبي-- قال : (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم )) فنجعل لكل بلد رؤيتهم ولو أن كل منطقة تراءت الهلال مثلاً منطقة المشرق تترآه ومنطقة المغرب تترآه فإن ثبت عندهم فبها ونعمت ، وإن لم يثبت أكملوا العدة فكل على خير ، أما لو قلنا : إن رؤية بلد هي رؤية لغيره يتنازعون هل نتبع هذا البلد أو نتبع هذا البلد ؟ نعتد بهذه الرؤية أو هذه الرؤية ؟ ، ولذلك تقع كثير من الفتن والمشاكل بسبب جعل الرؤية الواحدة رؤية للجميع والذي يظهر من خلال السُّنة خاصةً حديث ابن عباس الذي قال فيه النبي-- : (( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )) يقول لا نفى هذا وقال : هكذا أمرنا رسول الله-- فصار تفسيراً لقوله : (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) أي صوموا يا أهل الشام لرؤيتكم ، وصوموا يا أهل الحجاز لرؤيتكم ، فجعل لكل أهل منطقة رؤيتهم وهذا هو الذي يندفع به الإشكال ويزول به اللبس إذا جُعل لكل بلد رؤيتهم المعتبرة ، وحينئذٍ إذا رأوا الهلال عملوا بالرؤية ، وإذا لم يروه أكملوا العدة ثلاثين يوماً .
[ ويصام برؤية عدل ولو أنثى ] : ويصام برؤية عدل يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد ، والعدل يراد به من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر :
العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر
فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنى وشرب الخمر ونحوها من كبائر الذنوب لايفعلها فهو عدل ، ويجتنب في غالب حاله الصغائر ، لماذا يقول العلماء : يجتنب في غالب الحال الصغائر ؟ لأنه لايمكن لأحد أن يسلم من الصغائر ، وقد أشار النبي-- بقوله في حديث عنه : (( إن تغفر اللهم تغفر جَمّاً ، وأيُّ عبد لك ما ألمَّا )) ، (( إن تغفر اللهم تغفر جماً )) أي شيئاً كثير ، (( وأي عبد لك ما ألما )) أيْ أيُّ عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب ، فلايمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب .
وصغائر الذنوب لها أمثلة ، مثل النظرة وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها ، فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه ونحو ذلك ، فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل ، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لايكون عدلاً ، ولذلك قالوا : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولاصغيرة مع الإصرار ، فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى فإن هلاك الإنسان قـد يكون بصغائر الذنوب ، ولذلك يقول ابن عباس-رضي الله عنهما- : لا تنظر إلى معصيتك ؛ ولكن انظر إلى من عصيت ، فإذا كان الإنسان نظر إلى عظمة الله-- فإن الصغيرة كأنها كبيرة ؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه-نسأل الله السلامة والعافية- ، فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب ويمتنع من كبائر الذنوب ، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته ، وهو الرضي الذي يُعتد بشهادته وقد أشار الله إليهما بقوله-تعالى- : { وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ } ، وقوله : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } فلا يُرضى إلا العدل .
وقوله : [ برؤية عدل ] : معناه أنه إذا شهد غير العدل لاتقبل شهادته ؛ والسبب في رد غير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب سواءً كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً-والعياذ بالله- فالنميمة تعتبر من كبائر الذنوب ، أو كثير الاغتياب للناس دائماً يقع في أعراض الناس فيغتابهم فهذا لاتقبل شهادته ، والفعلية كشرب الخمر والزنى فإن هذه تسقط عدالته وتوجب رد شهادته ، السبب في هذا يقول العلماء : أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب ، ومن هنا كأن وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون ؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله ، كذلك من باب أولى أن لا يكون أميناً على حقوق الناس .
لكن الحنفية-رحمة الله عليهم- عندهم تفصيل في الفاسق يقولون : إن الفاسق ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : فاسق تحصل بفسقه التهمة .
والقسم الثاني : فاسق لا تحصل بفسقه التهمة ، فالفاسق الذي تحصل بفسقه التهمة كأن يكون معروفاً بالكذب ، ومعروفاً بالذنوب التي هي من الكبائر والفاسق الذي لاتحصل التهمة به كأن يكون إنساناً يشرب الخمر مثلاً ؛ ولكنه لايكذب ، وهذا يقع ، فإنك قد ترى بعض الناس عاصياً وترى على سمته أنه ليس بمطيع ولكنه أمين وتجده من أبر الناس بوالديه ، ومحافظاً على العهد لايكذب ولايغش ، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال ؛ ولكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه ما لاتجده عند من يوصف بكونه صالحاً ، وقد تجد الإنسان على سمت أو ظاهره طيب ولكنه كذاب أو غشاش أو خائن-والعياذ بالله- أو سارق أو